|
|
|
|
الثـورات التي قـد تغيـر وجـه المنطقـة
|
|
|
|
|
|
|
|
فوجئ جميع المحللين والباحثين وحتى صناع القرار ودوائر الاستخبارات المحلية والعالمية بما جري في تونس. لم يكن أحد يتوقع ما حصل. ولم ينتظر أحد انتقال ذلك وبمثل تلك السرعة إلي مصر. لذا لم يتردد الكثيرون في وصف التحولات التي حصلت بالزلزال الذي قلب الأمور والتوقعات رأساً علي عقب[1]. وما زاد من حجم المفاجأة أن شرارة «الثورات» انتقلت بسرعة اللهب إلي بلدان أخري مثل البحرين واليمن وليبيا والجزائر. ومن غير المعلوم مَن مِن هـذه النظـم ومن الرؤسـاء سينهار قبل الآخـر وسيلتحـق بالرئيسين بن على ومبارك. وكـأن «بوعزيزى» الذي أحرق نفسه في تونس كان الشرارة التي أشعلت المنطقة كلها.
عـوامـل التغـــــيير
لا تعنى هذه المفاجأةأن عوامل هذا الانفجار لم تكن تختمر في داخل هذه المجتمعات منذ عقود. ولا يعنى ذلك أيضاً أنها المرة الأولي التي تحاول فيها قوي شعبية التظاهر أو النزول إلي الشارع لتحقيق مطالب اجتماعية مثل ثورة الخبز في تونس قبل سنوات، أو سياسية تعبيراً عن الغضب من مواقف النظام من قضية داخلية أو إقليمية مثل الحرب علي غزة عام 2008-2009 أو الحرب الإسرائيلية علي لبنان عام 2006 إلي مطالب النقابات والأحزاب بتوسيع دائرة الحريات والمشاركة السياسية أو وقف العمل بقانون الطوارئ كما كان الحال في مصر طيلة العقود الماضية. لكن كل هذه المحاولات السابقة من التظاهر أو الاحتجاج لم تؤد إلي أي تغيير حقيقي أو جوهري لا في القوانين ولا في طريقة تعامل السلطة مع الهيئات السياسية والحزبية والاجتماعية والنقابية المختلفة. ففي تونس ومنذ أكثر من عشرين عاماً لا تزال حركة الاتجاه الإسلامي محظورة. وقد زج أتباعها في السجون، وفر قسم آخر إلي الخارج، وأبرزهم الشيخ راشد الغنوشى الذي بقى في لندن نحو عشرين عاماً لا يقدر علي العودة إلي بلاده. وعلي الرغم من نزع الصفة الإسلامية عن «حركة الاتجاه الإسلامي» وتحويلها إلي «حركة النهضة» بقيت ممنوعة ولم يتمكن أعضاؤها من العمل علانية أو من المشاركة في الحياة السياسية في البلاد. ولم تشهد تونس أي حياة حزبية حقيقية باستثناء الحزب الدستوري الحاكم الذي حظي لوحده بحق المشاركة وبالهيمنة مع مؤيديه وأنصاره علي مقدرات البلاد الاقتصادية والسياسية.
الصورة نفسها تكررت في مصر. فمنذ وصول الرئيس مبارك إلي السلطة قبل ثلاثين عاماً، استمر العمل بقانون الطوارئ الذي يتيح اعتقال أيا كان من دون أي مبرر. ولم تعر السلطة أذناً صاغية لكل مطالب ودعوات النقابات والأحزاب والحركات بالتخلي عن هذا القانون. وحركة الإخوان المسلمين وهى من أكبر الحركات الإسلاميةلا تزال محظورة وممنوعة من المشاركة السياسية المباشرة منذ عقود أيضاً. وتلجأ الحركة إلي لوائح الأحزاب الصغيرة المعترف بها لكي تتمكن من المشاركة في الانتخابات النيابية في هذه الدائرة أو تلك. وقد زج النظام بأعضاء وقادة هذه الحركة في السجون مرات ومرات. ولم تتم محاكمة معظمهم في كثير من الحالات. كما تولت المحكمة العسكرية محاكمة الآخرين. وعلي الرغم من وجود أحزاب «تاريخية» في مصر مثل حزب العمل وحزب الوفد وحزب التجمع، إلا أن هذه الأحزاب لم تتمكن لا من لعب دور بارز في الحياة السياسية و لا في تغيير الواقع السياسي، ليس فقط بسبب ضعف أو تراجع دور هذه الأحزاب، بل لأن السلطة منعتها من العمل بحرية وضيقت عليها ولم تتردد في اعتقال بعض قادتها خصوصاً حزب العمل. في حين أن حزب النظام «الحزب الوطني»، وعلي غرار «الحزب الدستوري» في تونس نال حصة الأسد في كل انتخابات جرت في مصر. وباتهذا الحزب موئلاً لرجال الأعمال والتجار الكبار يلتحقون به سبيلاً للترقي السياسي ولحماية أو توسيع المصالح التجارية والاقتصادية. وهكذا برزت طبقة من كبار رجال الأعمال في هذا الحزب ممن حصدوا مليارات الدولارات في سنوات قليلة.
ما هو مشترك أيضاً في تجربتي تونس ومصر أن الحكم تحول بمرور الزمن إلي حكم العائلة التي تدير البلاد وتمسك بالاقتصاد وتجنى مليارات الدولارات من مشاركتها المباشرة في كل مشاريع الاعمار والتسلح والتجارة والاستيراد والتصدير في المجالات كافة. وقد تداولت كثير من التقارير حجم الهيمنة العائلية لأسرة مبارك إلي باقي الأقارب مع شخصيات كثيرة من رجال الحزب الوطني إضافة إلي مشروع نقل السلطة إلي ابنه. وقد تكررت التجربة نفسها في تونس عندما هيمن بن على وزوجته وأشقاؤها علي السلطة وعلي إدارة موارد البلاد، وعلي المنتجعات السياحية في بلد يعتمد بشكل أساسي علي السياحةالخارجية، كما كشفت كثير من المعلومات أن زوجة بن على كانت تخطط للانقلاب عليه وترشيح نفسها للرئاسة.
لقد نتج عن ذلك كله إفقار غير محتمل بالنسبة إلي معظم قطاعات الشعب، في الوقت الذي أثرت فيه «العائلة الحاكمة» ثراءً فاحشاً تبين بعد سقوط النظامين أن ثروة كل واحد منهما تقدر بعشرات مليارات الدولارات.
المستوي الآخر من التشابه بين تونس ومصر وبين دول أخري كثيرة في المنطقة هو سياسة التبعية للولايات المتحدة الأمريكية من دون أي اعتراض علي ما تقوم به ولا علي دعمها المطلق لإسرائيل.
لقد اتسعت رقعة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية بعد تنحى الرئيس مبارك. وانتقلت إلي اليمن وإلي البحرين ثم إلي ليبيا. وقد نشهد بلداناً أخري مرشحة لمواجهة هذه الحالة المتسارعة من الاعتراض الشعبي الواسع والعنيف علي سياسات النظام وصولاً إلي المطالبة بإسقاط النظام نفسه أو رأسه الحاكم.
لم يكن من المتوقعبالنسبة إلي معظم إن لم يكن كل الباحثين والمحللين أن يحصل هذا التغير أولاً ثم أن يحصل بمثل تلك السرعة التي حصل فيها ثانياً وأن ينتقل ثالثاً من بلد إلي آخر. لكن عوامل التغيير والنقمة التي أدت إلي هذا الانفجار كانت تعتمل في جوف المجتمع.
إن الملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها علي هذا الانفجار الذي انتقل من بلد إلي آخر هو أن الشعب كسر حاجز الخوف. وهذا هو التغير «الإستراتيجي» الذي حصل. كانت الشعوب محكومة بالخوف، وبالأجهزة الأمنية وبالفقر، وعندما استطاعت أن تكسر هذا الحاجز، أي عندما نزلت إلي الشارع، انتقل هذا الخوف إلي الطرف المقابل الذي هو السلطة. وهذا أيضاً لم يكن متوقعاً حصوله بمثل تلك السهولة، إذ كيف يتداعي نظام حاكم منذ أكثر من ثلاثين سنة ويسيطر علي أجهزة أمنية عديدها مئات الألوف في خلال بضعة أسابيع ؟. لقد تبين أن هذه الأنظمة لا تملك أي قاعدة شعبية يمكن أنتدافع عنها. فما إن خرج الشعب إلي الشارع حتى انكشفت الحقيقة التي حاولت وسائل الإعلام الرسمية إخفاءها طيلة عقود، مثلما حولت الانتخابات النيابية التي كان يحصد مقاعدها الحزب الحاكم أو الانتخابات الرئاسية من خلال نسبة الـ 99 بالمائة. لقد تبين أن هذه الأنظمة « أوهن من بيت العنكبوت.
ما يمكن ملاحظته أيضاً في قراءة هذا التغير أن القوي التي قررت النزول إلي الشارع وتحدى السلطة وأجهزتها الأمنية لم تكن الأحزاب التقليدية «التاريخية» خصوصاً في مصر مثل حزب العمل أو حزب التجمع أو حزب الوفد أو الحركات الناصرية أو القومية، أو حتى حركة الإخوان المسلمين، صحيح أن هذه القوي التحقت بالتظاهرات ونزلت بقوة إلي جانب المتظاهرين، وساهمت في «إنجاح» الثورة، لكن من وجه الدعوة إلي النزول إلي الشارع هي مجموعات غير معروفة. وليس لها قيادة لا في تونس ولا في مصر ولا حتى في البلدان الأخرى وصولاً إلي ليبيا. ويمكن التأكيد في هذا المجال أن ما حصل في تونس هو الذي شجع المصريين علي النزول إلي الشارع. بمعني أن «بوعزيزى» الذي أحرق نفسه هو الذي أشعل « الثورة ليس في تونس وحسب بل في كل المنطقة العربية.
إن الشباب الذي بادر إلي الاحتجاج الذي تحول إلي « ثورة » في تونس وفي مصر هو جيل متعلم ومثقف، يتقن أكثر من لغة ويعرف التواصل مع العالم وهو جيل الحداثة والتكنولوجيا، وهو الجيل الذي لم يشهد الهزائم العربية التي كسرت نفوس الجيل الذي سبقه من السياسيين ومن المثقفين، بل علي العكس لقد شهد هذا الجيل « زمن التراجع الأمريكي في العراق وفي أفغانستان وزمن هزيمة إسرائيل في لبنان وصمود حماس في غزة ». لكن من جهة ثانية عاش هذا الجيل تحت وطأة استبداد وفساد فاحشين لا يمكن مقارنتهما بما تعرف عليه من خلال تواصله المباشر أو التكنولوجي مع العالم وخصوصاً مع الغرب، ومع البطالة التي بلغت في أوساط المتعلمين والجامعيين أكثر من خمسين في المائة، ومع شيوع استخدام تقنية التواصل اليومي الإلكتروني، قام هؤلاء الشباب بتقليد النموذج الغربي في الاحتجاج من خلال تشكيل مجموعات عبر الإنترنت والفيسبوك، من دون أن يتوقعوا أن يتحول الأمر إلي «ثورة». وفي الواقع لو لم تلتحق القوي التقليدية كـ «الإخوان» في مصر و «حركة النهضة» في تونس، وسواهما، بذلك الاحتجاج، لما تحول الأمر إلي «ثورة» شجعت باقي فئات المجتمع علي الالتحاق بها والانخراط فيها.
إن هذه الحركة التي بادرت إليها تلك القوي غير الحزبية ونجحت في إسقاط رئيسين، وهى تهدد الثالث في ليبيا حتى كتابة هذه السطور تستدعى التأمل والتفكير علي المستويات التالية:
§ هل إن ما حصل هو كما يشير البعض من تدبير الولايات المتحدة التي أرادت التخلص من الحكام الذين باتوا عبئاً عليها وعلي شعوبهم ؟، وهذا يعني بحسب هذهالفرضية أن ما جري ليس مفاجئاً وإنما كانت هناك أيد أمريكية أو غربية تشجع علي القيام به خصوصاً وأن حجم الفساد وحجم التدهور لم يعد من الممكن الدفاع عنه أو تبريره، أو حتى تجاهله. هذه الفرضية تعنى أن الشعوب التي نزلت إلي الشارع لم تتجرأ علي فعل ذلك من تلقاء نفسها. وأن الولايات المتحدة هي التي أرادت التغيير لكي تبقي المنطقة تحت السيطرة بدلاً من سيطرة قوي أخري (أصولية إسلامية) علي مقدرات الأمور.
§ لا تلحظ هذه الفرضية التي فسر بها البعض «الثورات الأخيرة» في بعض البلدان العربية تحولات السياسة الأمريكية في المنطقة وفي العالم، كما أن أصحاب هذه الفرضية يعتقدون من حيث أفصحوا عن ذلك أم لا بقدرة الولايات المتحدة الثابتة التي لا يرقي إليها الشك. وهذا أيضاً لا يتناسب مع التراجعات التي شهدتها قدرة واشنطن في السنوات الماضية وخصوصاً منذ العقد الماضي. وهو تراجع يعترف به الأمريكيون في المواقع المختلفة من صناع القرار إلي مراكز الأبحاث ومؤسسات التفكير إلي الباحثين والمحللين. حتى ذهب بعض هؤلاء إلي نعى الهيمنة الأمريكية علي العالم التي لم تستمر سوي عقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد لا يحتاج المرء إلي كثير من الأدلة علي هذا التراجع، إذ تكفي الإشارة إلي ما أصاب القوات الأمريكية في العراق والفشل الذي منى به المشروع الأمريكي (الشرق الأوسط الجديد)، والعجز الأمريكي عن السيطرة علي أفغانستان، أو القضاء علي حركة طالبان، وكذلك عجز واشنطن عن وقف البرنامج النووي الإيراني علي الرغم من العقوبات الدولية المتكررة علي طهران. وفشل إسرائيل في القضاء علي حزب الله عام 2006 بعد الحرب التي شنتها عليه بإيعاز وتشجيع أمريكي مباشرين، كما فشلت في القضاء علي حركة حماس بعد الحرب علي غزة في نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009. ولم تقدر واشنطن لا علي عزل سوريا ولا علي زعزعة نظامها. بل عادت سوريا أكثر قوة إلي الساحة الإقليمية، واستعادت نفوذها وتأثيرها في لبنان. حتى الرئيس الأمريكي نفسه قال في أكثر من مناسبة خصوصاً بعد الأزمة المالية الأمريكية أن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها أن تدير العالم لوحدها وأنها باتت تحتاج إلي تعاون الآخرين معها[2]. وقد اضطرت إلي الاستعانة بالصين لمواجهة هذه الأزمة المالية، وبروسيا لتوفير طرق إمداد لقواتها إلي أفغانستان، وبإيران لتوفير انسحاب « آمن » لقواتها من العراق. كما فشلت إدارة أوباما في تحقيق أي تقدم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية علي الرغم من كل وعود أوباما في هذا المجال. ما يعنى أن قدرة واشنطن قد تراجعت فعلياً. وإذا كان من الواضح أنها عجزت عن الإتيان بإياد علاوى رئيساً لحكومة العراق، وعجزت عن إبقاء سعد الحريري رئيساً لحكومة لبنان، فمن المنطقي الاستنتاج بأنها عجزت أيضاًعن حماية الرئيس المصري كما عجزت عن حماية الرئيس التونسي وهؤلاء هم أيضاً حلفاؤها، وليس من المبرر أن تتخلي عنهم، أو عن الرئيس الليبي، أو عن الرئيس اليمنى، بمثل تلك السهولة التي يعتقدها البعض. وما يؤكد أن الولايات المتحدة لم تكن خلف تلك «الثورات»، وأنها لم تتوقع استمرارها ومشاركة الملايين فيها، أن وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون اعتبرت في أولي أيام «الغضب المصري»، «أن النظام في مصر مستقر». ثم تراجعت بعد بضعة أيام أخري عندما استمر الاعتصام في ميدان التحرير إلي القول بأن النظام يحتاج إلي إصلاحات شاملة. ثم تحدث أوباما عن ضرورة الانتقال السلمي للسلطة في حين جزم جون كيري رئيس مجلس العلاقات الخارجية بضرورة رحيل مبارك قبل أن يرغم هذا الأخير علي تعيين عمر سليمان نائباً للرئيس بعدما رفض مثل هذا التعيين طوال ثلاثين سنة. لكن مبارك لم يتنح إلا بعد إصرار المحتشدين في ساحات القاهرة والإسكندرية والسويس وغيرها من المدن علي هذا المطلب دون سواه. ولم تتراجع الإدارة الأمريكية عن دعمها له وعن ترددها في تنحيه عن الرئاسة إلا نتيجة هذا الإصرار الشعبي وليس لأن أوباما أو كلينتون أو حتى جون كيري كانوا يرغبون في رحيل مبارك[3].
§ ما تقدم يعنى أن قدرة الولايات المتحدة لم تعد كما كانت لا في صناعة الرؤساء ولا في الاحتفاظ بهم. والأمثلة علي ذلك يمكن العودة إليها أيضاً في أمريكا اللاتينية «حديقة الولايات المتحدة الخلفية» التي تشهد مثل هذا الاستقلال عن السياسة الأمريكية والمزيد من الابتعاد عنها وعن الخضوع لنفوذها. في حين نشهد بالمقابل تعاوناً أوسع بين الأرجنتين وفنزويلا والبرازيل مع إيران، خلافاً للرغبة الأمريكية التي تريد عزل إيران ومعاقبتها[4].
§ لا يعنى تراخى القبضة الأمريكية أن واشنطن ستقف لتتفرج علي انهيار حلفائها، بل ستعمل جاهدة لاستيعاب ما جري في إطار إستراتيجية «الحد من الخسائر»، أي القبول بإطاحة رأس النظام ولكن في الوقت نفسه المحافظة علي طبيعة هذا النظام، أي توجهاته الليبرالية الاقتصادية، وعلاقاته الإقليمية وتحالفاته الدولية، خصوصاً ما يتعلق منها بأمن إسرائيل (مع مصر) وأمن النفط (مع ليبيا) ودول الخليج الأخرى. إلي حرص واشنطن علي منع الإسلاميين من الاقتراب من النظام أو السيطرة عليه، لأنها لا تريد أن تشهد تجربة إيران ثانية في المنطقة.
§ تطرح هذه الإستراتيجية الأمريكية في مواجهة مطالب «تغيير النظام» التي رفعتها الملايين في تونس ومصر وفي ليبيا وسواها أسئلة حول طبيعة ما جري؟، هل هي ثورة حقاً ؟، أم هي حركة احتجاجية إصلاحية واسعة أيدتها الملايين في مصر وعشرات الآلاف في تونس وفي ليبيا وفي البحرين ؟، وهل هي بداية مشهد جديد من العمل السياسي ومن بروز قيادات شابة غير معروفة وليس لها أي صلةبالتاريخ «التقليدي» للعمل السياسي في الدول العربية ؟.
§ لا شك أن الأمر يختلف بين بلد وآخر، لكن ما جري لغاية اليوم قد لا يكون «ثورة» بالمعني المتعارف عليه للثورات التي حصلت عبر التاريخ قديماً وحديثاً، لأن الثورة تعنى تغييراً جذريا للنظام، أي أن يقوم نظام جديد مكان النظام القديم. ما حصل في مصر لم يكن تغييراً للنظام بل إصلاحاً للدستور وتغيير الكثير من بنوده، ولم تهيمن قوي جديدة علي السلطة، ولم يحصل تطهير للقوي القديمة، ولم يتم تعيين قوي جديدة من الذين صنعوا الثورة، ولا زالت الأجهزة الأمنية علي حالها، وربما يعود الأمر إلي غياب القوة المنظمة والموحدة التي قادت الثورة، وإلي غياب القوة الأيديولوجية التي تحمل برنامجاً واضحاً للتغيير. فما حصل في إيران وهى أقرب ثورة في عصرنا الحالي عام 1979 كان تغييراً حقيقياً. لأن القوي التي أسقطت الشاه كانت تصر علي استبداله بنظام إسلامي. وقد فعلت ذلك من خلال دستور جديد للبلاد، ومن خلال تطهير الجيش، والأجهزة الأمنية الأخرى. كما أقفلت الثورة الجامعات لمدة سنتين لإعادة صياغة برامجها ومناهجها بما يتناسب مع أيديولوجية الثورة وأهدافها. وهذه هي طبيعة الثورات، لكن هذا ما لم يحصل تماماً في مصر أو في تونس، ولذا نحن أمام مرحلة انتقالية قد يحصل فيها التغيير بترو وتدرج من دون أن يفضى إلي «ثورة» شاملة علي النظام السابق برمته. ولذا ينبغي الترقب والانتظار لمعرفة إلي أي مدي يمكن لهذه «الثورات» أن تكون كذلك. وهذه المرحلة الانتقالية هي التي قد تتيح للولايات المتحدة محاولة استيعاب ما حصل من خلال التدخل للحد من التغيير وللحد من الخسائر. وقد بدأت واشنطن إرسال الموفدين « للاطمئنان » إلي مستقبل «التغيير»، خصوصاً وأننا لا يمكن أن نتوقع أن تقبل الولايات المتحدة بخسارة الموقع تلو الآخر من دون أن تحاول التدخل أو استعادة النفوذ مع ملاحظة الفارق في ذلك بين أهمية بلد وآخر بالنسبة إليها.
§ ربما يصعب القول بأن ما حصل هو إعلان ولادة قيادات شابة من رحم التواصل الإلكتروني بديلاً للقيادات الحزبية التاريخية. لأن ما سيجرى لاحقاً، أي بعد أن يستتب وضع «النظام الجديد»، هو الذي سيكشف مدي قدرة الشباب الذين دعوا إلي التظاهر عبر الفيسبوك والمواقع الإلكترونية المختلفة علي قيادة التغيير المرتقب. لأن القدرة علي الدعوة إلي التظاهر والتحريض ضد النظام والدعوة إلي إسقاط الرئيس شيء، والقدرة علي متابعة التغيير وإدراك التعقيدات السياسية والتصدي للتدخلات الخارجية شيء آخر. ولهذا السبب ينبغي أيضاً أن ننتظر قبل أن ننساق إلي الاستنتاجات التي يفترض أن تكون شديدة الأهمية بالنسبة إلي مستقبل الأنظمة وإلي مستقبل التغيير وشروطه بعد الذي حصل في البلدان العربية.
§ تبدو الحركة الإسلاميةفي كل من مصر وتونس وحتى في ليبيا بعيدة عن قيادة ما حصل، لا شك أنها شاركت بقوة في الاحتجاجات وفي التظاهر وفي تنظيم الصلاة في «جمعة» الاحتجاجات، وقدمت الكثير من الشهداء، لكنها لم تكن هي من بادر إلي الدعوة، ولم تطرح هذه الحركات نفسها بديلاً للنظام الحالي في هذه الدول. ويبدو أن الإخوان في مصر وحركة النهضة في تونس ليسا في وارد المنافسة علي السلطة بعد إعلان قيادات الطرفين عزوفهما عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية في كلا البلدين، وهى مثابة رسالة «تطمين» إلي القوي الأخرى غير الإسلامية في الداخل، وإلي القوي الخارجية حتى لا تعمل علي المزيد من محاولات التدخل أو ممارسة الضغوط، وربما تكون سنوات القمع والاستبعاد الطويلة قد دفعت الحركات الإسلامية إلي تجنب هذا التحدي «الرئاسي» في هذه المرحلة الدقيقة من التحولات التي تمر بها بلدانهم. هذا بالإضافة إلي النقاش المفتوح سواء داخل الأوساط الإسلامية أو خارجها حول رغبة الحركات الإسلامية العربية بالاقتداء بالتجربة التركية أو حتى قدرتها علي ذلك، خصوصاً علي مستوي تصالح الحركة الإسلامية التركية مع العلمانية ومع الغرب وحتى مع إسرائيل.
التداعـــيات الإقليمية
تتفاوت تداعيات ما حصل بين بلد وآخر. فما يهم الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي من مصر هو التزامها باتفاقيات كامب ديفيد قبل أي أمر آخر، يلي ذلك الخشية من سيطرة «الإخوان» علي النظام الجديد. لكن ما يهم الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلي ليبيا علي سبيل المثال هو استمرار تدفق النفط الذي تستورد منه ألمانيا وفرنسا وإيطاليا نحو ثلث حاجاتها من الاستهلاك اليومي. وبالنسبة إلي تونس يريد الأوروبيون الاطمئنان إلي عدم تدفق المهاجرين «غير الشرعيين» إلي بلدانهم، وإلي أن الحركة الإسلامية في تونس لن تهيمن ولن تنقل العدوى إلي بلدان المغرب العربي الأخرى حيث تنشط حركات إسلامية قوية في كل من المغرب والجزائر. لكن ما حصل يطرح تساؤلات كثيرة حول مستقبل الوضع الإقليمي وحول تأثير هذه «الثورات» وما أعقبها من تغيير، علي الأدوار الإقليمية لهذه الدولة أو تلك، وعلي موازين القوي الجديدة بعد سقوط أنظمة كانت لها تحالفاتها الدولية والإقليمية وكان لها أدوار مؤثرة في المنطقة وتجاه أكثر من قضية مشتعلة في الشرق الأوسط من لبنان والعراق، إلي إيران وفلسطين.
إن أهم الأسئلة المطروحة حول الأدوار الإقليمية الجديدة هي حول الدور المصري المرتقب بسبب موقع مصر وحجمها وقيادتها السابقة للوضع العربي قبل أن تتراجع عن ذلك بعد اتفاقيات كامب ديفيد في مطلع الثمانينيات.
لقد شكلت مصر في عهد الرئيس حسنى مبارك إلي جانب المملكة السعودية أحد أهم أركان السياسة الأمريكية في المنطقة.كما كانت القيادة المصرية داعماً أساسياً لحلفاء واشنطن في لبنان وفي فلسطين، إضافة إلي موقف مصر المعروف من تأييد السلطة الفلسطينية ضد حركة حماس، إلي تأييد التفاوض مع إسرائيل. وإذا كانت الولايات المتحدة ستحاول استيعاب ما حصل من تغيير في مصر فإن أكثر ما يهمها ويقلقها من هذا التغيير هو طبيعة دور مصر الإقليمي. لكن التحولات التي تشهدها مصر ومسار التغيير الذي تمر به يعنى أن عودتها إلي دورها الإقليمي، لن يكون بمثل تلك السهولة التي يظنها البعض. أي أن تعود مصر إلي دورها السابق قبل كامب ديفيد في قيادة المنطقة العربية وفي تصدر الواقع الإقليمي علي غرار المرحلة الناصرية.
§ الشرط الأول لمثل هذه العودة أن تتخلي القيادة المصرية الجديدة عن كامب ديفيد. وهذا الشرط يبدو مستبعداً في ظل طبيعة القوي التي تقود عملية التغيير في مصر. وفي ظل عدم وضوح مدي استعداد هذه القوي للتغيير الجذري في علاقات مصر الإقليمية والدولية.
§ إن مصر لن تعود إلي واقع إقليمي ينتظر من سيملأ الفراغ فيه، أي أن الأمر لا يشبه أبداً الفراغ الإستراتيجي الذي حصل بعد سقوط العراق وملأته إيران بعد الاحتلال الأمريكي، فقد غابت مصر عن دورها القيادي نحو ثلاثين عاماً. في هذه الأثناء أصبحت إيران بعد الثورة قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، وأصبحت تركيا لاعباً بارزاً في هذا المشهد الإقليمي. وينبغي أن نضيف أيضاً سوريا ودورها وعلاقاتها مع كل من إيران وتركيا لتكتمل صورة هذا المشهد الذي تشكل في غياب الدور المصري الذي ذهب إقليميا مع المملكة السعودية والأردن باتجاه التماهى مع السياسات الأمريكية.
§ إن استعادة مصر مجدداً لدورها الإقليمي يفترض الابتعاد النسبي الواضح عن سياسات المملكة العربية السعودية في كل من لبنان وفلسطين، وهذا أمر لا يمكن التيقن منه قبل أن تتبين طبيعة القوي الجديدة التي سيحملها الشعب إلي البرلمان وإلي الحكومة ثم إلي الرئاسة فيالمرحلة المقبلة.
§ في ظل أدوار القوي الإقليمية الرئيسة أي إيران وسوريا وتركيا، ويمكن أن نضيف إليهم العراق ولبنان (بعد التغيير الحكومي فيه) وحزب الله وحماس، لا يمكن أن نتخيل أي دور مستقبلي لمصر خارج التعاون مع هذا «المحور» السوري التركي الإيراني. يكفي بهذا الصدد أن نشير إلي العلاقة الإستراتيجية بين سوريا وإيران منذ ثلاثين سنة، وإلي العلاقة المستجدة منذ سنوات بين سوريا وتركيا، وإلي العلاقة المتنامية بين تركيا وإيران علي المستويات كافة التجارية والاقتصادية والأمنية. بحيث يتوقع البلدان أن يبلغ التبادل التجاري بينهما في السنوات القليلة المقبلة ثلاثين مليار دولار[5]. لذا من الصعب أن نتخيل أي دور جديد وفاعل لمصر بعيداً من هذا المحور التركي-السوري-الإيراني. وأي دور خلاف ذلك هو إما عزلة مصرية أو عودة إلي السياسات السابقة في عهد حسنى مبارك. وحتى عندما يفترض البعضأن مصر ستكرر التجربة التركية، مع الإخوان المسلمين (الذين تقدموا بطلب ترخيص رسمي باسم «حزب الحرية والعدالة») فإن هذا الافتراض لن يتحقق من دون التعاون مع هذا «المحور».
إن سقوط نظام الرئيس مبارك يعنى علي صعيد إقليمي آخر أن ما كان يطلق عليه «محور الاعتدال» أو الدول العربية المعتدلة قد ترنح وهو يستعد للسقوط، فالمملكة السعودية الضلع الآخر المهم في هذا المحور مشغولة وقلقة بدورها من أي محاولة للتغيير قد تحصل فيها علي غرار الدول الأخرى. وكذلك الأردن يريد أن يتجنب كأس التغيير والتهديد الذي أطاح الرؤساء. لذا إن محور الاعتدال الذي فقد أحد أركانه لم يعد بمقدور باقي أطرافه العودة إلي السياسات القديمة نفسها من التماهى مع واشنطن أو من التضييق علي الحركات المناوئة للسياسات الأمريكية، وهذا يسمح بالاستنتاج أن المحور المقابل الذي أطلق عليه محور الممانعة أو محور المقاومةمثل سوريا وإيران إلي حزب الله وحركة حماس هو اليوم أكثر شعوراً بالقوة.
تبدو إسرائيل من بين الدول الأكثر قلقاً وخوفاً من نتائج ما جري من تغيير. وإذا كان قادتها والمحللون في صحفها وفي مراكز الدراسات يتحدثون عن مخاطر هذا التغيير الذي سيفضى برأيهم إلي مزيد من العداء لها، فإن ما جري في مصر هو أكثر ما يثير القلق الإسرائيلي. لقد تحولت مصر في المنظور الإسرائيلي من «ذخر إستراتيجي» إلي «إنذار إستراتيجي»، أي أن مصر التي كانت تضمن لإسرائيل حدوداً آمنة طوال عقود باتت اليوم مصدر قلق لأن قادة الكيان العبري غير واثقين من مستقبل هذا التغيير أو لأنهم متأكدون من أن ما سيأتي لن يكون بأي حال مثل الذي مضي بالنسبة إلي أمنهم علي الحدود المصرية. وهذا يفسر لماذا خرجت بعض الأصوات تدعو إلي إعادة النظر في تعزيز دور المدرعات بعدما باتت الحدود مع مصر عرضة لتحولات غير متوقعة[6].
هذا القلق الإسرائيلي يعنى أن استئناف التفاوض لن يكون وشيكاً قبل أن تتضح تماماً طبيعة التغيرات في السياسة المصرية تحديداً. كما أن احتمال أن تشن إسرائيل هجوماً علي حزب الله في لبنان أو علي حركة حماس في غزة هو سيناريو مستبعد وحماقة قاتلة لإسرائيل لأن حالة الانفعال الشعبي العربي والتظاهرات والتجمعات في الشوارع والثقة الجديدة بالنفس لدي الشباب العربي سوف تدفع هؤلاء إلي تحويل كل غضبهم من الحكومات ضد إسرائيل التي يكرهونها أصلاً، ولكنهم لم يجعلوها أولوية في حركتهم التغييرية. ولذا من المستبعد أن تشن إسرائيل أي هجوم علي أي من دول المنطقة بما فيها سوريا أو إيران ولا علي أي من حركات المقاومة. خصوصاً وأن الولايات المتحدة التي تحاول تدارك ما حصل من انهيار النظم والحكومات الحليفة، ليست مستعدة لحماية أو دعم مغامرة إسرائيلية قد تشعل منطقة الشرق الأوسط كلها.
لا شك أن ما حصل هو عملية تاريخية لم تشهدها الدول العربية وشعوبها منذ نحو نصف قرن، أي منذ حصلت هذه الدول والشعوب علي استقلالها من المستعمر الأوروبي. وما حصل تجاوز كل التوقعات سواء علي مستوي التوقيت أو القدرة علي الثبات والصمود في الشارع أو علي مستوي القوي الشابة التي بادرت إلي تحمل مسؤولية هذه «المغامرة» التي نجحت من حيث لم يحتسب أحد. كما أن التغيير الذي حصل تجاوز الأشكال التقليدية التي عرفتها الثورات منذ القرن الماضي إلي اليوم. وهى أول ثورة يشهدها القرن الحادي والعشرين. لكن، وعلي الرغم من أهمية كل ما جري يبدو أننا نشهد مرحلة انتقالية تطرح أسئلة كثيرة علي مستويات عدة داخلية وإقليمية، من ذلك علي سبيل المثال: من هي القوي التي ستصل إلي مواقع القيادة والسلطة في هذه المرحلة الانتقالية؟ هل هي القوي الشابة التي اندفعت إلي تنظيم التظاهر والاحتجاج؟ أم هي القوي التقليدية وخصوصاً الحركات الإسلامية التي كان لحضورها القوى في الساحات الدور المهم في ثبات التحركات الشعبية وفي استمرارها ؟ علماً بأن هذه الحركات وخصوصاً الإخوان في مصر هم أكثر القوي السياسية تنظيماً وشعبية. وإذا كانت هذه القوي الإسلامية لا تبـدى استعداداً راهناً للحكم فهل ستبقي علي «زهدها» في المرحلة المقبلة ؟.
وما هي طبيعة الدولة الجديدة المنشودة ؟ وهل سيطال التغيير المستويات الداخلية فقط من تعديل القوانين والحصول علي الحريات والديمقراطية وتداول السلطة فقط؟، أم أن التغيير يمكن أن يطال علاقات مصر أو تونس مع الغرب ومع إسرائيل؟ وماذا ستفعل السلطة الجديدة هنا أو هناك في اتفاقيات الشراكة المعقودة مع الأوروبيين في تونس ومع الولايات المتحدة ومع إسرائيل في مصر؟ هل ستتجاهلها القوي الجديدة مع حاجتها إلي التسلح وإلي القمح من واشنطن ؟، أم أننا سنشهد تغييراً حقيقياً وجوهرياً في السياسات الإقليمية لهذه الدول، بحيث تتجه الحكومات الجديدة إلي المزيد من التعاون مع الدول العربية الأخرى بدل الاعتماد علي الغرب وعلي مساعداته؟، فنكون أمام تقدم حقيقي في علاقات التعاون العربي علي المستويات السياسية والاقتصادية ؟.
ثمة أسئلة كثيرة مع هذه «الثورات» التي قلبت كل معايير التحليل والتوقعات، لكن في كل الأحوال إن ما جري هو بداية عصر جديد للشعوب العربية التي استعادت ثقتها بنفسها، وهو بداية تشكل أوضاع إقليمية جديدة حيث لن يكون بمقدور الولايات المتحدة أن تعود بسهولة إلي الإستراتيجية نفسها في التدخل والوصاية، بعدما فقدت الكثير من بريقها ومن نفوذها، كما لن تتمكن أي سلطة عربية جديدة من العودة إلي سياسات التبعية للخارج وإلي القمع والاستبداد في الداخل
|
|