العزماني: كارزمية البوعزيزي حلّت محل بن لادن

حاوره: نور الدين لشهب
أكد الباحث المغربي المقيم بأمريكا عز الدين العزماني، أن تناقض التصريحات بين "الإدارة السياسية" و"الإدارة العسكرية" الأمريكية، حول عملية مقتل أسامة بن لادن، شوش على الاحتفالية الإعلامية بحدث مقتل العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية .
وأضاف العزماني الباحث بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا في حوار مع "هسبريس" أن الشعوب العربية اهتدت إلى منهجها في التعامل مع الطغاة بطريقة سلمية ومدنية وحققت نجاحات فاجأت الجميع، موضحا أن كارزمية البوعزيزي حلت مكان كارزمية بن لادن في الوجدان الشعبي العربي.
وأوضح العزماني المرشح للدكتوراه في العلوم السياسية في موضوع "الفضاء العام في المجتمعات الإسلامية" أن المغامرة الديمقراطية الممتعة التي دخلها الشباب العربي أثبتت جدارتها في مواجهة مغامرة الجبال والعنف.
وفي ما يلي نص الحوار
كيف تابعت مقتل بن لادن في الإعلام الأمريكي؟
لاشك أن الحدث قد أثار اهتماما ومتابعة كبيرة من قبل الإعلام العالمي عموما، لكنه اكتسى "نكهة" خاصة في الإعلام الأمريكي، حيث يمكن أن نسجل ثلاث صور أساسية تعكس مفارقات كبرى واكبت "الاحتفالية" الإعلامية والسياسية الأمريكية بالحدث: أولاها هي صورة "الانتصار العظيم" للشعب الأمريكي على "رأس الأفعى" كما يحب الإعلام الأمريكي أن يسمي زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ولعل رواية "إلقاء الجثة في البحر" تنسجم مع المنطق الانتقامي الأمريكي والتي تعكس هزيمة نفسية عميقة بعد أن ضرب الكبرياء الأمريكي في الحادي عشر من سبتمبر 2011، وفي هذا السياق حاول الإعلام الأمريكي تغطية موقف المسلمين الأمريكيين وتبيان فرحتهم. ثانيها هي صورة "وحدة الأمة" الأمريكية، والتي تجسدت في إجماع الإعلام الأمريكي باتجاهاته المحافظة والليبرالية على أهمية الحدث، وأظهرت فرحة الشعب الأمريكي، بما في ذلك محطة "فوكس نيوز" الإخبارية ذات التوجه الإعلامي والسياسي اليميني المحافظ، التي ما فتئت تقتنص الفرص للنيل من رصيد أوباما السياسي والشعبي، حيث أشادت هذه المرة بالإدارة الأمريكية بحيث ظلت "خطابات التشكيك" في العملية محدودة.
وثالث الصور يتعلق ب"نجاح الإدارة" سياسيا، استخباراتيا وعسكريا. سياسيا من خلال تحقيق الوعد الانتخابي لأوباما بالقبض على بن لادن والتي انتهت بقتله، وهو الأمر الذي لم يفلح فيه سلفه بوش. ومن الواضح أن أوباما لم يفوت هذه الفرصة لرفع أسهمه في البورصة الانتخابية بدءاً بطول الخطاب المتلفز الذي ألقاه بهذه المناسبة (والذي دام لحوالي أربعين دقيقة) وانتهاءً بالاحتفال على طريقته الخاصة بموقع "غراوند زيرو" الذي كان مسرحا لأحداث 11 سبتمبر. ثم نجاحها استخباراتيا من خلال استرجاع شيء من ماء الوجه للاستخبارات الأمريكية خصوصا بعد تسريبات "ويكيليكس" وما سببته من أزمات وإحراجات للدبلوماسية الأمريكية، وأيضا بعد النقاش الذي دار في الأروقة الرسمية حول الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية وعدم قدرتها على توقع أحداث العالم العربي. وأيضا نجاحها عسكريا من خلال التأكيد على أن العملية تمت على يد القوات الخاصة من البحرية الأمريكية، وهو ما يفسر تركيز الإدارة الأمريكية على أن العمل العسكري كان سريا ولم يشترك فيه أي طرف بما في ذلك الحكومة الباكستانية.
لكن تناقض التصريحات بين "الإدارة السياسية" و"الإدارة العسكرية" حول العملية شوش على الاحتفالية الإعلامية وأعاد إلى الأذهان أسئلة "السرية" في العمل الاستخباراتي الأمريكي ونقاط الظل الكثيرة حول العملية، والتي تهم قضايا أساسية من قبيل: هل المهمة كما تم التخطيط لها قبليا استهدفت الاعتقال من أجل المحاكمة كما حصل مع صدام حسين أم القتل؟ وهل كان بن لادن مسلحا أم لا؟ هل تقرر الدفن في البحر بشكل فجائي أم لا؟ ومن صلى الجنازة على بن لادن على متن الباخرة إذا صحت الرواية الرسمية؟ هل قام بذلك ضباط أمريكيون؟! هل شاركت الاستخبارات الباكستانية في العملية أم أنها ظلت سرية ونفذت أمريكيا؟ لماذا تقرر عدم نشر شريط العملية وصوره الموثقة؟
إن هذه التناقضات تخفي وراءها قلقا متناميا حول "الرصيد الأخلاقي" في التعامل مع الإنسان والروح الانتقامية التي استأسدت بالأجهزة الأمنية الأمريكية، فهل يا ترى تتحقق العدالة بإلقاء جثث الموتى في البحر؟! كما تخفي وراءها إشكاليتين أساسيتين: تتعلق الأولى بالشرعية القانونية للدفاع عن النفس وما إذا كانت ظروف العملية تبرر قتل بن لادن بدل اعتقاله ومحاكمته وفق مبادئ الحرب، وتتعلق الثانية بمدى شرعية التدخل الدولي وإجراء عملية عسكرية بهذا الحجم على ارض أجنبية، ذلك أنه إذا كانت العملية قد تمت بدون علم السلطات الباكستانية فان الأمر يتعلق بخرق للسيادة وفق مبادئ القانون الدولي. وربما سنشهد مطالب بفتح تحقيق في الموضوع وهو ما بدأت أولى معاركه داخل اللجنة القانونية في الكونغرس الأمريكي، غير أن هذه المطالب لن تصل إلى مداها في ظل ضعف اهتمام الرأي العام الأمريكي بتفاصيل السياسة الخارجية الأمريكية وتركيزها في يد أقلية تتحكم في تأويل "المصلحة القومية" عبر تقليص حجم المعلومات المتعلقة بهذه القضايا الحاسمة.
هل ترى أن "القضاء على الإرهاب" قد تم بمقتل بن لادن؟
الأطروحة التي تؤكد أن مقتل بن لادن سيؤدي إلى تقوية القاعدة والعمل الإرهابي موجودة، وهي أطروحة يتبناها بعض الرسميين في الإدارة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية وأيضا بعض الصحف الأمريكية خاصة "نيويورك تايمز" و "واشنطن بوسط" وبعض حلفاء أمريكا في العالم الذين بادروا إلى التكهن بإمكانية حدوث عمليات إرهابية انتقامية ستعزز من قوة القاعدة، من خلال "فرضية أن موت الشخص لا يعني موت الفكرة والتنظيم"، وهو ما تعززه حجج تتعلق بتهديد طالبان بالانتقام، وأيضا الوعيد المنتشر بالمواقع الالكترونية الجهادية، وهي أطروحة تحاول "دغدغة" عواطف جناح الصقور في الحزب الجمهوري وفي الإدارة العسكرية، وبالتالي ترك الباب مفتوحا أمام "المغامرات العسكرية" الأمريكية في العالم، غير أنها أطروحة تبقى ضعيفة بالنظر إلى المحددات التالية:
المحدد الأول:من الناحية السياسية والأيديولوجية يتجلى في أن الربيع الديمقراطي العربي قد أنهى مشروع بن لادن والقاعدة سياسيا وإيديولوجيا قبل هذه العملية، وأنهى معه مشروع الإسلام الراديكالي. لقد أبدع الشارع العربي بقيادة شبابه في هزيمة الاستبداد والامبريالية معا في النموذجين التونسي والمصري وما زالت كرة الثلج تتدحرج على نطاق أوسع، ولم يكن للقاعدة أي دور ميداني أو توجيهي في ذلك. ومنه أن أحد "أسباب نزول" القاعدة، أي الأنظمة الاستبدادية قد صار للشعوب العربية القدرة على "القضاء عليها" بحيث لا يحتاج لوصاية إيديولوجية من القاعدة أو من غيرها، خاصة أن هذا المسار العربي الجديد قد استطاع استقطاب التوجهات السلفية إليه للمطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية، بالإضافة إلى فلسفة المشاركة التي استلهمت روحها جماعة الإخوان المسلمون في مصر، والتي ساهمت في تحولها من جماعة محظورة إلى حزب سياسي شرعي.
المحدد الثاني:من ناحية الأداء الميداني، ذلك أن القاعدة دخلت في حالة "خمول تنظيمي" في المرحلة الأخيرة، وبعض أعمال العنف التي نفذت في بعض الدول العربية والإسلامية ارتبطت بأجندات محلية أكثر منها بتنظيم القاعدة.
المحدد الثالث: من الناحية التنظيمية، حيث أن القاعدة ليس تنظيما هرميا يدير موارد هائلة، وأن مصادر التمويل التي ارتبطت ببن لادن محدودة بالنظر إلى عدم قدرتها على التحرك بسهولة على المدى الدولي، كما أن القاعدة ليست بذلك الجيش الموحد الذي يدير موارد هائلة كما هو حال جيوش الدول. وبالتالي فالقاعدة هي إيديولوجية ممركزة في رمزية الزعيم أي أسامة بن لادن باعتباره الأمير المجاهد في تصور الشباب الجهادي له الذي زهد في الدنيا والتحق بصفوف الجهاد ضد الغرب. وبالتالي فان فقدان الشخصية الكاريزمية يضعف التنظيم بشكل كبير.
إن المحددات الثلاث السالفة تبين نهاية فزاعة القاعدة في إدارة قضايا الشرق الأوسط، ذلك إن القاعدة بقيادة بن لادن والظواهري ولدت في ظروف "غير طبيعية" تتعلق بالهزيمة العربية الكبرى وإخفاقات النهضة والتحرر، ولكن "أسباب نزولها" في ظل "الظروف جد الطبيعية" التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي اليوم، أي ظروف الثورة على الاستبداد والتطلع للحرية والكرامة قد زالت وستنعدم لا محالة.
إن معالجة الإرهاب (الذي ساهمت إدارة بوش في إنشاء العديد من أسبابه خاصة بعد غزو العراق سنة 2003 وبداية الحديث عن الخلايا التي اكتسبت تسميات مختلفة) لها كلفة اكبر من عملية قتل شخص والإلقاء به في البحر: إنها تستلزم أن ترفع أمريكا يدها عن دعم إرهاب الدولة الإسرائيلي، وان تكون واضحة في دعم الشعوب في مواجهات إرهاب الدول العربية، وان تنسحب قواتها وقواعدها العسكرية من المنطقة العربية والإسلامية.
هناكمن يقول بأن القضية الفلسطينية ستعود إلى مربعها الأول مع الإعلان عنمقتل بن لادن والمصالحة التي تجري الآن في مصر بين حماس وفتح؟
لقد جاءت عملية قتل بن لادن في ضوء ثلاث سياقات أساسية: سياق تراجع شعبية أوباما الانتخابية، وسياق فشل الإدارة الأمريكية الحالية في خلق شروط الانسحاب السلس من أفغانستان، ثم سياق الربيع العربي الديمقراطي، وكلها سياقات على قدر كبير من الأهمية والحساسية بالنسبة لمستقبل الإدارة الحالية.
دعنا نقول بوضوح، إن عملية قتل بن لادن تتعلق أساسا بإستراتيجية أوباما الباكستانية ـ الأفغانية ومحاولة ترتيب الأوراق المتصلة بمسار الانسحاب الهادئ من أفغانستان والتغطية على الإخفاقات في هذا الملف، ومحاولة حصر نطاق "الحرب ضد الإرهاب" في عمليات عسكرية موضعية تنتهي بنتائج ملموسة وواضحة، وهو ما كشفت عنه إستراتيجية أوباما لسنة 2009. ولذلك ـ وفق حسابات الخسارة والربح في الإستراتيجية الأمريكية التي تعتمد منطق تعدد المسارات ـ قد نشهد انتقالا سلسا نحو الاهتمام بالملف الفلسطيني باعتباره الملف الذي تتكثف فيه القضايا العربية باعتباره أداة أساسية من أدوات استعادة الشرعية الأمريكية التي فقدت الكثير من مصداقيتها في المنطقة العربية، خاصة بعد الثورتين التونسية والمصرية والأحداث في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، وأيضا باعتباره ميكانيزما لضبط التوازن الاستراتيجي في المنطقة بما يضمن مصالح إسرائيل. لقد كان هذا واضحا ـ على الأقل ـ في خطابات كثيرة لأكاديميين وسياسيين أمريكيين في خضم الربيع الديمقراطي العربي حيث طالبوا الإدارة الأمريكية بتسليط الضوء مجددا على المنطقة العربية واستثمار نتائج الثورات لصالح ضمان مصالحهم الإستراتيجية. لم تعد المنطقة العربية ـ منذ اليوم ـ حديقة النزهة التي يحرسها المستبد العربي، لكنها منطقة تحتاج لتوافقات كبرى مع الحراس القادمين كيفما كانت طبيعتهم.
وكيف تفسر أن الشعوب العربية لم تأبه بمقتل بن لادن سواء في العالم الافتراضي أو في العالم الواقعي؟
الأمر لا يحتاج لكبير عناء في التفسير، لقد حلت كارزمية البوعزيزي محل كارزمية بن لادن في الوجدان الشعبي العربي بشكل عميق. ذلك أن الشعوب العربية اهتدت إلى منهجها في التعامل مع الطغاة بطريقة سلمية ومدنية وحققت نجاحات فاجأت الجميع. إن المغامرة الديمقراطية الممتعة التي دخل الشباب العربي غمارها، مغامرة أثبتت جدارتها في مواجهة مغامرة الجبال والعنف. فقد أثبتت المطالب الشرعية للشارع العربي بمختلفة مكوناته الدينية والسياسية والإيديولوجية أمام العالم نهاية فزاعة الإرهاب في الوقت الذي ظلت فيه القاعدة على هامش هذا التغيير السلمي. والواقع أن الشعوب العربية مهتمة اليوم أكثر بتعزيز مسار التحول الذي تعيشه، ومحاسبة المسئولين عن الفساد والاستبداد، وأيضا تحصين مكتسبات الثورة، وفي حالات أخرى ما تزال تبحث عن طريقها نحو التحرر من السلطوية والاستبداد. وإذن، فقد أدرك الشباب العربي عدم صلاحية فكر العنف والإرهاب في تحقيق التغيير الجوهري ليس فقط من الناحية الفكرية بل من الناحية التجريبية أيضا.
لقد صارت القاعدة تهمة ترمى بها الشعوب التي تواجه الاستبداد، أو لنقل أنها "ماركة مسجلة" لخلط الأوراق كما نرى ذلك في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها. ولا ننسى أن أمريكا كانت هي أولى من وظف هذه التهمة في خلط الأوراق على الصعيد الاستراتيجي بين القاعدة والإسلام، وبين المقاومة والإرهاب واستعمالها المكثف في إنتاج مقولات الرعب الأصولي.
إن تعامل الشباب مع بن لادن باعتباره ظاهرة سياسية منتهية الصلاحية، لا ينفي أن بعض المسلمين عبروا عن مشاعرهم تجاه بن لادن/الإنسان وطريقة قتله وإلقائه في البحر دونما أي احترام لحرمة الميت ولتعاليم الدين الإسلامي في الدفن، مما يضرب عرض الحائط مقولة "تحقق العدل" التي وردت في بلاغ أوباما الذي يخبرنا فيه بروايته التي يشهد عليها هو ومعانوه وحدهم لحدود الساعة.
|