|
|
|
|
ثورتا مصر وتونس وتداعياتهما المحتملة عربياً وإقليمياً
|
|
|
|
|
|
|
|
|
إذا كان يُقال إن «كل سلطة مفسدة، فإن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» (لورد إلمكتون)، وأسوأ ديمقراطية هي أفضل من أي استبداد، «فالقهر يحجب نشاط الإنسان وذكاءه وإبداعه» (آدم سميث). نستذكر مثل هذه الأقوال في وقت تشهد فيه المنطقة العربية منذ قرابة شهرين، العديد من المظاهرات وحركات الاحتجاج الشعبية المطالبة بالحرية والديمقراطية والإصلاح والتغيير، ومازالت الثورة ممتدة ومتواصلة. وإذا كانت الثورة قد هبت شرقاً بعد أن قام الشعب التونسي بإشعال شرارتها يوم 14 يناير، وأسهمت في فتح النوافذ التي طال غلقها أمام رياح الحرية، فقد تسلم الشعب المصري بدوره الشعلة يوم 25 يناير ليفتح الأبواب علي مصراعيها أمام مطالب التغيير. وفي كلتا الحالتين كانت ثورة علي مختلف المفاهيمالسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت طوال الحقبة الماضية سواء علي المستوي الداخلي أم الخارجي.
ومع هاتين الثورتين وحركات الاحتجاج العربية الأخرى، استعادت شعوب المنطقة إلي الذاكرة أقوال دعاة النهضة العربية التي رددوها منذ عدة عقود علي أمل إخراج الوطن العربي والإسلامي من حالة الركود والجمود الفكري والثقافي بل والديني[1]. وأسقطت هاتان الثورتان مقولة الاستثناء العربي من الديمقراطية وأن خصوصية المجتمعات العربية تجعلها عصية علي التجديد والتحديث التي روج لها المستشرقون طويلاً، وهو ما سيعيد تشكيل طرق ومناهج البحث في النظم السياسية وتجارب التحول الديمقراطي في الوطن العربي. فقد عبرت ثورتا مصر وتونس بشكل صارخ عن شوق طال انتظاره للديمقراطية والحرية، وأصبح للديمقراطية خطاب عربي يفرض نفسه علي كل لغات وثقافات العالم. وسنتناول في هذا البحث تداعيات هاتين الثورتين عليالمستوي العربي والإقليمي.
أولاً - أهم الأسباب والسمات والمخاوف لثورتي تونس ومصر:
إن تحليل هذه الأسباب والسمات هدفه معرفة مدي انعكاس إعادة بناء الداخل علي التوجهات الخارجية، وهل سيُمكن اكتمال ثورة الداخل من ممارسة دور خارجي أكثر تعبيراً عن نبض الشعوب العربية وأكثر اتساقاًً مع مصالحها الوطنية، واستنهاض الأوضاع العربية الراهنـة ؟.
أ) فما هي أهم محركات هاتين الثورتين الأساسية ؟
1- فقدان الأمل :في مقدمة محفزات ثورة الشباب في مصر وتونس كانت حالة انسداد آفاق الأمل أمامهم سواء في الحاضر والمستقبل. فقد صادر نظاما الحكم الذي استمر لعدة عقود، حقهم في الحلم بواقع أفضل، بعد أن فشل مشروعا التنمية الوطنية في البلدين. إذ يلاحظ تزايد عدد العاطلين في صفوف الشباب الذين يشكلون قرابة %40 من مجمل السكان. والوظيفة ليست مجرد لقمة عيش، بل هي اعتراف بالوجود، ومن دونها يشعر الشابالعاطل أنه يعيش ملفوظاً علي هامش المجتمع، ويتزايد شعوره بالضياع لو ظل لفترة طويلة عالة علي أسرته. ولذا فإن بعض هؤلاء الشباب وصل بهم الأمر إلي حد المخاطرة بركوب «قوارب الموت» المتجهة نحو المجهول وكانوا يقومون بحرق وثائقهم التي تربطهم ببلدانهم الأصلية، حتى لا تتم إعادتهم إليها.
2- تزايد الإحساس بمرارة الواقع الاجتماعي :لقد اندلعت هاتان الثورتان بشكل عفوي نتيجة الإحساس المتزايد بمرارة الواقع الاجتماعي المؤلم الذي آلت إليه غالبية الشعبين المصري والتونسي. فالقاعدة العريضة في البلدين، تشعر أن أوضاعهما الاجتماعية والمعيشية أصبحت أسوأ حالاً وأقل أمناً عما كانت عليه في الماضي. وأبناء الطبقة الوسطي وما فوق الوسطي الذين شاركوا في هاتين الثورتين كانوا مثلهم مثل بقية الشباب يشعرون بالإحباط نفسه فقد أدي تآكل الطبقة المتوسطة إلي اقتراب شريحة كبيرة من أبناء هذه الطبقة من مشاعر الفقراء وتزايد الإحساس بمعاناتهم[2] .
3- الرغبة في العيش بكرامة :إن ما حدث في تونس ومصر كان أيضاً نتاجاً لحاجة الشباب الذين حرموا لسنوات طويلة من ممارسة العمل السياسي في البلدين والمشاركة بفاعلية في مستقبل بلديهما، والعيش بكرامة، أيقظتها صرخة البائع الجوال البوعزيزى الذي أحرق نفسه احتجاجاً علي انتهاك الشرطة لكرامته ومصادرة عربته (مصدر رزقه)، لتجد صداها في كافة المدن التونسية.
وإذا كان كاتب أمريكي قد رأي :«أن الوضع الاقتصادي السيئ للشعب المصري لا ينذر بثورة اجتماعية، كما هو الحال في دول أخري، لأن المصريين ظلوا فقراء قروناً عديدة (هكذا)، ولذا فلم يكن من الممكن أن يتغير وضعهم في الحياة، ولم يكن لهم أبداً أية توقعات للتحسن نتيجة الضعف الاقتصادي الحاد»[3] فإن هذا التوصيف وهذه الحتمية، غاب عنها أن هشاشة النظام أعطت قوة مضاعفة للثورة ضده، فضلاً عن أن الكاتب الأمريكي تناسي سوابق الانتفاضات الاجتماعية المصرية، وأقربها انتفاضة يناير 1977 التي أطلق عليها نظام السادات تضليلاً انتفاضة «الحرامية». ومن سمع صيحات المتظاهرين في ميدان التحرير يصل إلي قناعة بأنه ليس الفقر والقهر العامل الوحيد في ثورة 25 يناير 2011، وإنما كان التركيز أيضاً علي معاني العزة والكرامة المفقودتين، وهى ما عبروا عنه عندما رددوا «مصر حرة وصرنا أحرار» و «ارفع رأسك إنك مصري»، وغيرها من الشعارات التي تعبر بشكل بليغ عن التوق للحرية والكرامة، التي ترددت شعاراتها في ميدان التحرير[4] وأبدت جموع الشباب الثائر في مصر وتونس استعداداً واضحاً وشجاعاً للتضحية من أجل استرداد هذه الكرامة. فالشعوب العربية لا تثور من أجل الخبز وحده، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكنها ثارت ضد الاستهانة بها والتلاعب بمقدراتها[5] وإهدار كرامتها الإنسانية.
4- تصاعد القمع لترسيخ مفهوم الغنيمة:قامت الثورتان ضد نظامين قمعيين فقدا شرعيتهما لاستبعادهما المتعمد للقاعدة الشعبية، وقاما علي هرمية سلطوية استندت بشكل أساسي إلي دعم الأجهزة الأمنية التي استخدمت أقصي أنواع القمع وآلياته ضد المعارضين. وصاحب احتكار السلطـة في البلدين احتـكاراً للثروة أيضاً، وأصبح الحـكم فيهما يستند إلي مفهوم «الغنيمة»[6]ووفقاً له فإن الدولة بوصفها متاعاً يحق للحاكم التصرف به للإثراء الذاتي أو التوريث لمن يشاء، هي علاقة تملك مطلق[7]. ولذا جري العمل علي تهميش المجتمع حتى يسود هذا المفهوم ويصبح مقبولاً، عبر توسيع رقعة الفساد لزيادة عدد المستفيدين من بقاء مثل هذه الأنظمة ومساندتها، والذي حاول بعضهم إجهاض الثورة، باستخدام الجمال والجياد والسيوف ضد المتظاهرين في ميدان التحرير. لكنهم لم يتمكنوا من هزيمة الثورة بل زادوها اشتعالاً وصلابة. وفي الواقع فقد جاءت الثورة في البلدين لتعلنا بدء الخروج الجماعي من تيه سجن القهر السلطوي والقمعي طويل الأمد والأهم من ذلك كان كسر حاجز الخوف.
5- الشكوك والمخاوفوتتمثل في:
أ) أن ما يجمع بين هاتين الثورتين أنهما ثورتان تحتيتان ، بمعني أنهما لم تأتيا من أعلي، بل من القاعدة الجماهيرية في كل من مصر وتونس. وهما وإن بدتا بدون قيادة عمودية أو دليل عملي، مما يثير المخاوف من احتمالات الثورة المضادة لاستمرار بقاء بعض عناصر النظام السابق في السلطة، إلا أن غياب قيادة واضحة للثورتين كان من أسباب نجاحهما وقوتهما. فقد جعل من الصعب علي الأجهزة الأمنية احتواءهما أو إجهاضهما. كما أن ذلك لا ينفي وجود قيادات ميدانية شبابية لعبت دور المحرك الرئيسي في التحرك في البلدين، قيادات تقوم علي الأداء الوظيفي الميداني، واستعانت بوسائل الاتصال الحديثة[8]. فشهدنا بين الحينوالآخر الاحتشاد والزحف المليوني الناجح في الساحات الرئيسية، للضغط من أجل تصحيح مسار التغيير ودفعه من مرحلة إلي أخري أكثر تطوراً.
ب) ضمان حياد موقف القوات المسلحة: وإذا كان الجيش في البلدين مازال يعتبر القوة المرجحة والمسيطرة، وارتضت الجماهير المصرية والتونسية بالجيش الوطني حكماً وحارساً علي ثورتيهما في المرحلة الانتقالية، فإن هناك قلقاً مبرراً من احتمال عودة المؤسسة العسكرية إلي تولى مقاليد الأمور في البلدين، ولذا أصرت الجماهير المحتشدة في البلدين علي عدم منح أية صلاحيات في التعديلات الدستورية وتمكن من ممارسة دور مهين سواء لرئيس الجمهورية أو أي مؤسسات أخري.
وقد تفهمت القيادة العسكرية هذه الشكوك فأكدت علي لسان أحد مساعدي وزير الدفاع «أن المجلس العسكري لا يطلب السلطة ولا يتمناها وسوف يحرص علي انتهاء المرحلة الانتقالية بعد ستة أشهر»[9]، وفي الواقع فإن ذلك جاء إما زهداً في السلطة لجسامة التركة، أو احتراماً للشرعية الثورية الجديدة، ويلاحظ أن ثورتي تونس ومصر ركزتا علي دور مؤسسات الحكم المدني، وفي التقدير أن الظروف الراهنة لم تعد تسمح بعودة المؤسسة العسكرية إلي الساحة السياسية، لاسيما وأن نظم الحكم العسكرية ونتائجها علي مستوي العالم جعلتها غير مقبولة محلياً ودولياً.
يلاحظ أيضاً أنه لم تُرفع في كلا الثورتين شعارات إسلامية أو أيديولوجية أو سياسية، ولم تحرقا أعلاماً أو تهاجما دولاً بعينها، ولم يهتف الشباب والشابات بأي هتافات سوي من أجل تونس ومصر، فقد كان تركيزهم علي «إسقاط النظام» والمقصود بذلك إلغاء الدستور الحالي وكل المؤسسات التي انبثقت عنه وتحققت عدة إنجازات في هذا المسار في مقدمتها إسقاط مبدأ التوريث وتقيد صلاحيات الرئيس، وإنهاء دور المنظومة الأمنية وغيرها، وتم بذلك فتح صفحة سياسية جديدة.
ج) غياب دور المثقفين:إذا كانت الحاجة لدور المثقف والنخب تزداد كلما ازدادت التحديات التي تواجه الشعوب والمجتمعات لقدراتهم علي التعبير بما يؤثر علي قناعات الناس والحض علي اتخاذ المواقف المطلوبة، فإن غياب أغلب النخب عن المشاركة كان واضحاً في هاتين الثورتين. فهذه النخب التحقت بالسلطة ومؤسساتها فحولت دور المثقف وإبداعه إلي سلعة وتجارة. ومن هنا جاء ثناء بعض هذه النخب الشديد علي شباب الثورة وما قدموه من تضحيات، تعبيراً ربما عن لوم الذات لتقاعسهم عن القيام بدورهم المأمول فيه. ولكن لكي نكون منصفين، فإن هناك شرائح من هؤلاء المثقفين لعبوا أدواراً وطنية مشرفة وحرضوا بكتاباتهم علي الثورة، ودفعوا ثمناً باهظاً من مستقبلهم، وأثمرت جهودهم في إعادة الوعي للشباب وتزايد إحساسهم بالظلم والفساد والحاجة الملحة للتغيير.
ثانياً - تأثير الثورتين المحتمل عربياً:
إن التكهن بالمستقبل هـوفي تقدير البعض مجـرد «احتمالات» مرنـة أكثر من كونها «حتميات» صارمة. لكن من الممكن القول دون مخاطرة كبيرة، أن أحداث يناير في مجملها ستفتح آفاقاً إيجابية رحبة أمام مصر وتونس والوطن العربي بأكمله وتحدث تنشيطاً محسوساً في الدورة الدموية للأمة العربية، إذا تمكنت من استخلاص إرادتها وتفعيلها في المرحلة القادمة.
ويلاحظ بصفة عامة غياب شعارات العروبة والقضية الفلسطينية أو الموقف من إسرائيل عن الثورتين المصرية والتونسية، وكان وراء ذلك - في تقدير البعض - حكمة للتركيز علي الشعارات الجامعة في هذه اللحظة والتي تركز علي تغيير الأوضاع الداخلية أولاً[10]. لأن تحقيق ذلك سيكون له معادلة علي صعيد القضايا الخارجية. وقد تشهد الساحة العربية المتغيرات التالية:
1. أن الدوافع والسمات السابقة وغيرها تنبئ بأن هاتين الثورتين شعبيتان هدفهما الأساسي تحقيق سياسة وطنية في الداخل.. وإتمام ذلك سيجعلهما يبتعدان عن سياسات الخنوع والتبعية التي سادت خلال الحقبة الماضية، ومن هنا فالمتوقع أن تلعب المتغيرات الموضوعية الداخلية دوراً أساسياً في التأثير علي التوجهات الخارجية. ويقوم التنبؤ بحدوث تغير في هذه التوجهات علي افتراض اكتمال مقومات التغيير الداخلي ومؤسساته، وما سيواكب ذلك من تغير في أولويات السياسة الخارجية والمبادئ التي سيسترشد بها ... وتناول تفاصيل ذلك يخرج بطبيعة الحال عن الإطار المحدد لهذه الدراسة، ولكن ما يمكننا قوله هنا هو أن الرهان علي دور مصر المرتقب، بصفة خاصة، في تصحيح مسار السياسة والنظام العربيين سيتزايد. وفي التقدير إن مصر بثقلها وموقعها الإستراتيجي في قلب الوطن العربي ستعود إلي الوضع الجدير بها علي الساحة العربية باعتبارها واسطة العقد وجسر الاتصال بين المشرق والمغرب، وكذلك تونس بموقعها الوسطى في منطقة المغرب، وسيصعب حجب تأثير ما يحدث فيها في منطقة الجوار المغاربية، ولا يمكن عزل تأثير ما حدث في تونس ومصر علي التطورات المتفاعلة الآن في ليبيا.
2. وبصفة عامة لقد أصبحنا أمام نظام عربي يعاد تشكيله وتتغير مكوناته (أي الدول الأعضاء فيه) ويوحي بالتحرر من سياسات المرحلة السابقة، وستكون سياسات الدول الأعضاء فيه أكثر اقتراباً من المصالح العربية العليا وأكثر احتضاناً للقضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما أن مكوناته (الدول الأعضاء فيه) ستبتعد، وإن بدرجات متفاوتة، عن ظاهرة شخصنة السلطة ويتزايد اقترابها من مأسستها، بمعني أنه سيتعزز دور المؤسسات ويتم التوازن بين صلاحياتها ومسؤولياتها، وأن تخضع جميعاً للمساءلة والمحاسبة القانونية، وينعكس ذلك بالضرورة علي مواقف الدول العربية الخارجية وعلي العلاقات العربية العربية وفي النهاية سينعكس كل ذلك علي دور جامعة الدول العربية.
3. كلما نجحتالثورتان في استعادة النشاط الاقتصادي فإن ذلك سيعطى هامش الحركة المستقلة لصانع القرار الخارجي: من المستبعد أن تسير مصر «الجديدة» علي نفس السياسات التي تم تبنيها في عهد مبارك، كما لا يتوقع اتجاه مصر إلي الخيارات القومية الناصرية، فالتاريخ لا يعيد نفسه، فالظروف والأوضاع الموضوعية الراهنة تختلف تماماً عن سابقتها، وبين نبذ السياسات السابقة تماماً والعودة إلي التيار القومي الناصري توجد مسافة واسعة، من المحتمل أن تتبنى مصر سياسة وسطاً بين هذين التوجهين.
وإذا صح القول أن نداء القومية هو الذي حدد في السابق لمصر موقعها في قلب المنطقة العربيـة، فإن نـداء الديمقراطية هو الذي سوف يكفل لمصر هذه المرة أن تسترد موقعها الريادى «كدولة نموذج» قادرة، بالمشاركة مع باقي الدول العربية، علي القيام بمهام التحرير والبناء وإرسائها مقومات الحرية والكرامة في الوطن العربي.
أما عن منطقة الخليج العربي، هل يمكن القول إنها ستظل محصنة ضد التغيير، لاعتبارات داخلية وظروف ومصالح دولية ؟ أو أنها إجمالاً يمكن أن تمثل الاستثناء الوحيد عربيا ؟[11] فدول مجلس التعاون الخليجي - كما هو معروف - تعمل علي توفير الخدمات الاجتماعية المجانية، لاسيما في مجال التعليم والرعاية الصحية. وساعدت الثروة النفطية ومحدودية عدد السكان نسبياً علي توفير الدعم المباشر للمواطنين علي شكل منح وأراضٍ أو قروض عقارية، وقروض مشروعات سواء أكانت مدعومة أم دون فوائد. ويري البعض أن توافر مثل هذه الأوضاع والمعطيات ربما يؤخر تحول المعارضة في دول المجلس لتأخذ شكل الحركة السياسية الواسعة المطالبة بتغيير جوهري في أنظمة الحكم الخليجية، وإن كانت بعض إرهاصاتها قد بدأت في البحرين وسلطنة عُمان، وهو ما جعل دول مجلس التعاون تبادر بطرح مشروع خليجي لدعم مقومات الأوضاع الداخلية في هاتين الدولتين.
ولكن هل يكفي أسلوب المنح المالية لاستيعاب مطالب الإصلاح الجوهرية في دول مجلس التعاون ؟ أو أن تصبح بديلاً عن الإصغاء للشباب الخليجي المطالب بالمزيد من المشاركة السياسية في صنع القرارات والانفتاح علي العصر ؟. هناك آراء متعددة في هذا الشأن فبعض المثقفين الخليجيين يرون «أن الإصلاح اليوم مطلوب أكثر من أي يوم آخر، إصلاح الداخل من حيث الإدارة والخدمات والحريات»[12]، وفي تقدير البعض، أنه توجد مطالبات بالإصلاح من مثقفين ومهنيين قدموا عرائض تطالب بإجراءات إصلاحية جادة داخل إطار احترام الأنظمة الحاكمة، وأن العمل علي كسر جدار منع النقد الذاتي يعد أمراً بالغ الأهمية للإصلاح ولضمان أن يكون التغيير في منطقة الخليج أكثر منهجية[13]، فالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الجاد هو الكفيل باحتواء عوامل عدم الاستقرار الداخلي في دول مجلس التعاون.
ولعل هذه الاعتبارات وغيرهاإضافة إلي أن منطقة الخليج تعد منطقة مصالح حيوية تتشابك فيها وتتداخل أوضاع دولية وأخري إقليمية، محصلتها الحفاظ علي الوضع الراهن في منطقة الخليج، الأمر الذي يجعل العناصر الأساسية للتغيير الفجائي وغير المبرمج، أمراً مستبعداً حتى الآن في أغلب دول مجلس التعاون لا سيما إذا ما تم تسريع برامج الإصلاح الداخلية، وفي مقدمتها توسيع نطاق المشاركة السياسية.
ثالثاً - التأثيرات المحتملة لثورتي مصر وتونس إقليميا:
قد شهدت المنطقة العربية علي مدي العقدين الماضيين تراجعاً واضحاً للأداء العربي، أدي إلي صعود متزايد للأدوار الإقليمية غير العربية في قضايا المنطقة العربية نتيجة لمعاناتها من فراغ القوة فيما تعثر إقامة قيادة جماعية داخل القطاع العربي.
أما الآن فقد أصبحنا أمام مشهد سياسي إقليمي مختلف تماماً عما سبقه، يتطلب إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والمبادئ التي كانت تحكم علاقات البلدين بدول المنطقة غير العربية. وهو ما يتطلب أيضاً ضمن أمور أخري، إعادة تقييم الأولويات، وإعادة النظر في المخاطر والتهديدات الإقليمية انطلاقاً من رؤية جديدة وواقعية ووطنية.
وسنتناول الخطوط العريضة لاحتمالات تأثير ثورتي مصر وتونس علي الأدوار الإقليمية غير العربية وهى تحديداً إسرائيل وتركيا وإيران.
1. بالنسبة لإسرائيل:
1.لقد طرحت الثورة المصرية تساؤلات حول مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية والتخوف من واقع عربي جديد يحتضن القضايا القومية بقوة، وتعددت التصريحات الإسرائيلية التي عبرت عن قلق المسئولين من تأثير الثورة وما ستحدثه من تغيير في المنطقة العربية لخشية قادتها من المجهول القادم. فبدءوا بالتحريض علي الثورة المصرية ومحاولة إجهاضها، بالزعم أنها ثورة إسلامية ستهدد مصالح الغرب[14] ورغم ما في ذلك من مبالغات واضحة، فهو انعكاس لقلق له أسبابه الإسرائيلية، فأغلب التوقعات تشير إلي أننا أمام شرق أوسط جديد تتشكل ملامحه، وسيعاد النظر في الأسس والمبادئ التي تحكمه وفي مقدمتها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتفرعاتها وفي مقدمتها الأوضاع الفلسطينية الراهنة. فكما لاحظ كاتب بريطاني متخصص في شئون الشرق الأوسط فإن «اتفاقية كامب ديفيد كرست هيمنة إسرائيل العسكرية علي المنطقة علي مدي العقود الثلاثة الماضية، من خلال وضع مصر علي الحياد»[15]، وإضعاف مكانة مصر عربياً وإبعادها عن محيطها العربي، وارتكاب جرائم متكررة ضد الشعب الفلسطيني، لاسيما حصار قطاع غزة الذي أشعر الرأي العام المصري والعربي معاً بأن كرامة مصر والعرب قد أهينت، فعوضاً عن إحلال السلام والاستقرار، استمر القادة الإسرائيليون في تنفيذ مخططات التوسع علي حساب الشعب الفلسطيني والبطش به.
ولذا فمن المحتمل أن مصر، بعد إعادة بناء نظامها السياسي الجديد، ستضع قيوداً علي حرية الحركة الإسرائيلية في المنطقة من خلال مستويين:
المستوى الأول:إدارة الصراع العربي الإسرائيلي بشكل مغاير لما سبق. فسوف تضع مصر سقوفاً جديدة لخيارات التعامل مع إسرائيل وكبح عدوانيتها وطموحاتها غير المشروعة بالابتعاد عن صيغة الماضي المهترأة والسعي لإعادة هذا الصراع إلي الشرعية القانونية الدولية، وهو تطور لن تشعر إسرائيل معه بالأمان المطلق الذي تمتعت به في العهد السابق، والذي يعنى عدم الأمن للآخرين، والذي يتناقض مع جوهر عملية السلام نصاً وروحاً.
والمستوى الثاني:هو مطالبة إسرائيل باحترام تعهداتها والتزاماتها الدولية وإعادة مبدأ الندية والتكافؤ في التعامل الإقليمي القائم علي الالتزامات المتقابلة.
وإذا كان المجلس العسكري المصري قد أعلن الالتزام بكافة الاتفاقات الدولية التي وقعتها مصر، فإنه بعد الانتهاء من تشكيل مؤسسات الدولة الداخلية، فإنه من المتوقع إعادةالنظر في مجمل العلاقات المصرية الإسرائيلية، وسيساعد علي ذلك وضع عربي آخذ في التعافي سياسياً، بالتحرر من سياسة الخضوع لإملاءات واشنطن التي لا تقيم مواقفها أي اعتبار لقرارات الشرعية الدولية. ومن غير المستبعد في حالة استمرار السياسة الأمريكية علي نمطها الحالي، أن تصبح المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة العربية في عين العاصفة. ومن غير المستبعد إعادة إنتاج نموذج أمريكا اللاتينية في تعامل الدول العربية مع واشنطن.
2. بالنسبة لإيران:
سارع النظام الإيراني في تبنى موقف مؤيد للانتفاضة / الثورة الشعبية المصرية حتى قبل أن تستكمل دورتها النهائية باستقالة الرئيس مبارك من مناصبه، وتمثل ذلك في قيام المرشد الأعلى للثورة الإيرانية على خامئنى بتخصيص عشرين دقيقة في خطبة الجمعة (4/2) وباللغة العربية لتأييد المتظاهرين في مصر، بالزعم أن هذه الثورة تسير علي هدى الثورة الإيرانية.
توجد عناوين للعلاقات الإيرانية العربية يقتضى الأمر إعادة النظر في مكوناتها، وفي مقدمتها طموحات إيران في منطقة الخليج، وسبل احتواء الاحتقان الطائفي الناتج عنها، وأمن الخليج الإقليمي والملف النووي الإيراني وحقيقة ما يمثله من مخاطر. وبالتأكيد إن مصر ستتخذ مواقف متوازنة وموضوعية تجاه هذه الموضوعات، يصعب تحديد مداها الآن. بجانب عنوان رئيسي وهو العلاقات المصرية الإيرانية وضرورة أن تأخذ مساراً طبيعياً بعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما. إذ ليس من المنطقي أو المعقول أن تظل مصر الدولة العربية الوحيدة التي مازال يمثلها قسم رعاية مصالح، بينما يوجد لجميع الدول العربية، بما فيها دول مجلس التعاون، سفارات في طهران، وإعادة العلاقات سيتيح فرصة إجراء حوار مكثف بين القاهرة وطهران لإيجاد حلول مقبولة للقضايا الخلافية بينهما وتجاوزها للتركيز علي المسائل المتفق عليها لبناء علاقاتسياسية أوثق وأعمق.
وإذا كانت السياسة الأمنية الداخلية في مصر طغت علي ما عداها، وامتدت هذه النظرة إلي العلاقات المصرية الإيرانية لاعتبارات شخصية أكثر منها موضوعية، فآن الأوان للنظر لهذه العلاقات في إطار نظرة شاملة متعددة الأبعاد لتصحيح مسارها.
3. بالنسبة لتركيا:
يلاحظ أن القيادة التركية بادرت بإعلان ترحيبها بالتغيير الذي حدث في مصر، وكان رئيس الجمهورية التركية أول رئيس دولة يزور القاهرة بعد إسقاط نظام مبارك، والتقي بكبار المسئولين المصريين وطرح إمكانية تكثيف التعاون في مختلف المجالات بين البلدين ، وتركيا مارست دوراً إقليمياً نشطاً امتد إلي مختلف القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وإعادة النظر في علاقاتها الإستراتيجية مع إسرائيل. وتزامن ذلك مع انحسار دور مصر الإقليمي وانكفائها داخل حدودها ما أتاح لتركيا وغيرها القيام بدور إقليمي نشط في المنطقة العربية، ومن المقدر أن التغيير الجوهري الذي حدث في مصر سيفتح الباب أمام علاقات مصرية تركية قوية ومتوازنة، وعلاقة مصرية إيرانية واقعية.
وإذا نجحت الثورة المصرية في استكمال أدوارها الداخلية، يمكن توقع إقامة منظومة للتعاون الإقليمي المصري/ الإيراني/ التركي للتحرك المشترك والمنسق تجاه قضايا المنطقة، من شأنه إعادة الرشد للسياسة الإسرائيلية المنفلتة والمتطرفة وستجد إسرائيل نفسها في وسط منطقة عربية مغايرة ورافضة لسياستها فضلاً عن عزلة إقليمية في وقت تواجه مخاطر نزع شرعيتها علي الصعيد الدولي.
خلاصـة القـول
كما سبق أن أوضحنا في المقدمة فإن هذا الموضوع تناول أحداثاً جارية تتسم بدرجة كبيرة من السيولة السياسية، ولم تكتمل حلقاتها بعد، ومازالت تتفاعل وتتطور وتتشكل يوماً بعد يوم، ومن الصعب التنبؤ بشكلها النهائي، أو حتى استشراف ملامحها الرئيسية، فكل الاحتمالات مفتوحة ووارد. ولا ننسي أن هاتين الثورتين لا تعملان في فراغ، بل تواجهها أنصار النظامين السابقين والمتضررين من التغيير، ومازالت جهود احتواء الثورتين مستمرة، إضافة لدور بعض الأطراف الإقليمية المضاد ، لكن مع ذلك فإنه يتوقع أن يتم توظيف السياسات الخارجية في مصر وتونس، بصفة خاصة، وأغلب الدول العربية، بشكل أفضل لخدمة المصالح الوطنية والقومية.
ومن المرجح أيضاً أنه ستبدأ عملية تصويب السياسات العربية، إلا أن ذلك يتم بالسرعة المأمول فيها، ففاتورة التغيير لن تكون صغيرة وميسرة، ولهذا سيتم التغيير بشكل متدرج يتبني أسلوب الحد الأدنى المتصاعد، والمتجه في النهاية لتغيير نمط العلاقات العربية الإقليمية علي أسس مغايرة لما كان متبعاً في المرحلة السابقة.
إن التغيير الجوهري في سياسات الدول العربية داخلياً وخارجياً قادم قادم لا محالة. ولكن السؤال الذي مازال قائماً هو متى وبأي معدل ؟، وكم يستغرق من وقت ؟، ولا نود المبالغة في التفاؤل، فالأوضاع الراهنة لا تسمح لنا إلا بتفاؤل حذر ومحسوب. فالتغيير لابد من استكمال مقوماته أولاً. وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة شرط أن تكون في الاتجاه الصحيح، لاسترداد الإرادة السياسية المسلوبة داخلياً، وحينما يتم إنجاز ذلك، لنا أن نتوقع استقلالية القرار الخارجي العربي وحرصه علي المصالح الوطنية والقومية، والذي سيؤدى مهما طالت المرحلة الانتقالية، إلي أن تصبح دولنا العربية، بعد إسقاط الثقافة السياسية الانهزامية، ذوات فاعلة في قضاياها ومقدرات مصائرها ومؤثرة في مجريات الأدوار الإقليمية من حولنا
|
|